وهمُ الانطباع الأوّل ..

 

يحدثنا ” طوني صغبيني” في كتابه اللطيف المعنون بـ [العيش كصورة ، كيف يجعلنا الفيس بوك أكثر تعاسة] ويقول:” إذا كان التلفاز قد حوّل الكثيرين منّا إلى مجرد مشاهدين ثم إلى مستهلكين غارقين في مجتمع الاستهلاك الذي لا ينتهي، فإنّ شبكات التواصل الاجتماعي وخصوصاً ” الفيس بوك ” قد حولتنا إلى مجرّد أرقام أو صور على شاشة ، لتلقي بآخر معالم إنسانيتنا نحو الهاوية، وغدا الفيس بوك ليس موقعاً للتواصل ، بل للانفصال عن الواقع، وتشجيع العزلة، وتخفيض وتيرة التعامل الإنساني المباشر في حياتنا إلى أدنى درجة ممكنة”

أتفق مع ” طوني ” في كثيرٍ مما قال في كتابه ، ولا أريد أن أناقش الكتاب ومحتوياته هنا، بل قصدي تسليط الضوء على نقطة إضافية لم يتطرق لها الكاتب وهي : “وهم الانطباع الأول”

هناك عدة عوامل تفرض نفسها على روّاد شبكات التواصل الاجتماعي الخاصة بتقييم الطرف الآخر منها الاسم ( حقيقي أو حركي ) الصورة ( حقيقية أو مستعارة ) المحتوى ( جاد أو هازل ، عميق أو سطحي ، قيّم أو تافه ) ونوع التعليقات ( مؤدبة أو غير لائقة) نمنط التفكير عموماً ( منفتح أو مغلق )
(واعي أو موجه ) وغير ذلك من العوامل الثانية..

الذي يحدث حين تبدأ الإبحار في عالم ” السوشيل ميديا ” تبدأ هذه الخيارات أمامك بالازدياد ، وتقوم من خلالها بالتصنيف والغربلة ..
( فلان يضع منشورات أدبية ، لا بدّ أنّه أديب ) ( فلانٌ يضع منشورات دينية ؛ لابدّ أنّه ملتزم دينياً )
(فلان يضع علم الثورة؛ لابدّ أنّه ثائر عتيق ) وقس على ذلك ، وكل هذه التصورات المسبقة قد تكون صحيحة لكن نسبة وثوقيتك بها غير كافية للحكم بشكل كلّي على الشخص الذي أمامك ..

ثم إن هناك بعداً آخر لتوقيت نشر المحتوى، والمرتبط عموماً بالحالة النفسية للناشر، وهي التي تضبط آلية النشر، وهو وحده فقط الذي يعلم بالضبط ماذا تعني له هذه الكلمات أو الصور التي نشرها، ولا يحقّ لأي أحد أن يحكم عليه من مجرّد التجوال في صفحته ومعرفة طبيعة اهتماماته..

فعلياً نحن لا نعرف يقيناً من نتابعهم إلا بنسبة ضئيلة ( لا أتحدث عن المعارف والأصدقاء الحقيقين الذين نراهم في الواقع ونتواصل معهم على شبكات التواصل ) بل أقصد الغالبية العظمى ممن أحببنا حروفهم وتابعناهم على إثرها دون الخوض في تفاصيل حياتهم الشخصية .. وإن عرفنا شيئاً عنهم نشروه فيكون من ضمن الأشياء الـ 6% التي أرادوا إظهارها للعلن !

نحن لا نرى إلا ظلالاً للأشياء هنا ، فلا ” الإعجاب” تعبير فعلي عن الدرجة التي أعجبنا فيها بالكلام، ولا “الوجه الحزين” دليلٌ على التأثر بفاجعة، والأثر الناتج عن الأحداث السارّة أو المحزنة تغرق في شلال من المواقف اللحظية التالية التي ” ينسي بعضها بعضاً ” .

أمرٌ أخير ومهم جداً لاحظته، وهو زيادة انتشار “عدم الرضا” بين روّاد مواقع التواصل الاجتماعي بشكل كبير، فالأميّ يحسد المتعلّم ، والدميم يحسد الجميل، وقليل الإعجابات يحسد المكثر منها، وقس على ذلك في كل شؤون الحياة ، ولا أحد يرضى بقسمته التي قسمها الله له إلا نادراً ..
وربما من سلمَ من الحسد الجليّ، لم يسلم من المقارنة ، والرغبة في تحصيل ما غاب عنه، وتشوّفت نفسه إليه..

نحنُ هنا لسنا ذواتنا الحقيقة، بل ظلالٌ لها ، فإن رأيتم ما يسرّ أو يسوء فتذكروا أنّ الظلال تأوي إلى بيوتها بُعيد المغرب ، ولا شيء يدوم على حاله !

5 تعليقات

  1. أهلا أبو أحمد 🙂

    حيّاك الله ..

    نعم ، هذا واحد من الأعراض الكثيرة التي يُصاب بها مستخدمي مواقع التواصل ( الفيسبوك وغيره ) .

    المثير في الموضوع أنّ ” إدمان ” مواقع التواصل يؤدي إلى التأثير على المعايير التي نحاكم بها أنفسنا والآخرين ، ولهذا نجد أنّنا – لاشعوريا – ننظر إلى عدد المتابـعين لمغرّدٍ ما قبل أن ننظر إلى تغريداته ، وكذا ننظر إلى أنفسنا ونقيّمها حسب ( عدد الإعجابات ، إعادات التغريد ، …)
    * حسب ما أتذكّر أنّ الأستاذ الهدلق قد أشار لمثل هذا في بعض تغريداته الأخيرة .

    هذه بعض آثارها النفسية/الإجتماعية ، هناك آثار تتجاوز مانتصوّره عندما ننظر إلى الجوانب الأخرى .

    * كنت أفكّر في تأثير الأدوات الحديثة – من ضمنها هذه المواقع – على جانب التكوين الثقافي ، وجدت هذا المقال قبل عدّة أيام :

    http://www.ahram.org.eg/Archive/45/2010/1/14/10/3310.aspx

    ..
    كانت ملاحظة جيّدة أبو أحمد ، تصلح أن تكون منشوراً ،
    بانتظار تحليل أشمل ونفس كتابي أطول 🙂

    دمت بخير حبيبنا .

  2. أسعد دوماً بتعليقك يا صديقي وكلامك صحيح ، وأعتقد أنّ الآثار السلبية لم تظهر جميعها بعد،ونحن أمام طوفان نفسي ناتج من وسائل التواصل الاجتماعي

    رابط المقال الذي أرسلته للأسف لا يعمل لديّ 🙁

    ادعُ الله لي 🙂

    حياك الله يا حزام ..

  3. أهلا يا حبيب ..

    ابحث في العم قوقل :
    [ التكوين الثقافي في عصر المعلومات ]

    وستجد المقال لصاحبه السيد ياسين .
    فكرة المقالة لها بعض العلاقة مع ماكتبت .

    دعواتنا دائمة مولانا .. 🙂
    حفظكم الرحمن .

اترك رد