حين سئل محمد ابن المنكدر ماذا بقي من لذات الدنيا؟ قال: “ما بقي من لذات الدنيا إلا ثلاث: قيام الليل ولقاء الإخوان والصلاة في الجماعة”.
وإذا أردتُ أن أضيف لذّة رابعة؛ فستكون لذة اكتشاف كاتب أو كتاب بعيداً عن ضجيج شهرته، أو ذيوع صيته، متعة أن تقرأ نصاً وتصرخ بعد الفراغ منه: يا إلهيّ! كيف كنتُ غافلاً عن هذا الجمال طوال هذا الوقت؟
هذا ما حصل لي قبل أيّام، والفضل يعود لـ (عبير) والتي بالمناسبة تترجم بشكل أسبوعي في مدونتها اللطيفة (La Luna Melodies) وهي التي عرفتني على الشاعر (بول شاوول) وسأبقى ممتناً لها لهذا الاكتشاف البديع، وهذه التدوينة عربون شكر، فلولاها لما خرجت للنور.
ولأنّي لا أحب احتكار المتعة، لم أجد بداً من مشاركتكم النص، وهو منشور في كتاب ( منديل عطيل).

أربعة جدران أخرى*
“منذ مدة طويلة، ربما سنوات، لم يغادر غرفته إلا نادرًا، ونادرًا جدًا، ولضرورات قصوى كما يحب أن يسميها، لقص شعره مثلًا. وهذا يحدث أحيانًا مرة كل سنة أو سبعة أشهر وأحيانًا كل سنوات مرة، أو لشراء بعض الحاجيات والمجلات والكتب.
لكن عندما يغادر الغرفة الصامتة لا يبتعد أكثر من بضعة أمتار، لا خوفًا على حياته، ولا توجسًا ولا هروبًا من أحد. فهو من زمان لم يعد يذكره أحد ولا هو في حسبان أحد. ربما هناك شخص أو اثنان يشتري من عند الأول بانادول، ومن عند الثاني بطاريات للراديو لا يبخلان عليه بسؤال أو بابتسامة مولية. فهو من مدة طويلة انخرط في الغياب، وفي الصمت، فلم يعد يسمع ولا يحس به أحد. الجيران نسوا مَن هو، مهنته، اسمه اسم عائلته وتاريخه ومن أين جاء وكيف استقر في هذا الحي المنزوي، ولهذا لا يجد أحد من الجيران أي حاجة للسؤال عنه أو لافتقاده أو للتحقق من وجوده أو من عدم وجوده.
هذا الوضع الذي سعى إليه وكرّسه أراحه كثيرًا. فهو يشعر بأنه غير مجبر على الرد عن أسئلة مثل “أين كنت؟” أو “لماذا لا نراك” أو “ماذا تفعل هذه الأيام” أو “كيف حال؟” وهي أسئلة بات يراها سخيفة ومملة وقاسية أيضًا.
لماذا يسأل الناس بهذه الطريقة عن بعضهم؟ لماذا يتبادلون التحيات بهذه الطريقة؟ فليحتفظ كلٌّ بصمته وبعافيته وبحضوره وبغيابه، وليحتفظ كذلك بأسئلته وتساؤلاته واستفهاماته واستدلالاته واستنتاجاته. ولهذا عندما يلازم غرفته أسابيع أو أشهرًا متتالية يشعر بحرية مضاعفة لا تقدر بثمن، لأن أحدًا لن يسأل عنه. لا عائلة، ولا شجرة عائلة ولا فروع عائلة، و لا أصحاب و لا رفاق و لا زملاء ولا أحد. عال! يتنفس بطريقة مريحة، ويطمئن.
فهذا الوضع مثالي بالنسبة إلى شخص يريد أن يعيش في عزلة صافية، صافية لا يشوبها وجه أو صوت أو كلام أو اختلاط أو انفتاح، لا يشوبها حضور.
في هذه الإقامة الدائمة يتحرك السيد في مساحة ضيقة. فبيته صغير، هذا إذا كان حيث يسكنه يمكن أن يسمى بيتًا، إذ هو أقرب إلى غرفة لا مستطيلة ولا مربعة منفتحة على مدخل لا هو مربع ولا هو مستطيل ولا مستدير. شيء من كل هذه الأشكال، هندسة غريبة أو بالأحرى هندسة مرتجلة لهذه الغرفة، هندسة بلا شكل.
في هذه المساحة الضيقة كراسٍ عدة من القش، طاولة مستديرة لا تتلاءم مع فضاء المكان المائل، واطئة وذات لون أبيض أجرد. ثم أربعة جدران تفضي إلى عدة جدران أخرى لم عد ينتبه من زمان لا إلى لونها الحائل ولا إلى علوها ولا إلى عرضها. إنها جدران، ويمكن أن تسمى أي شيء آخر “حواجز” أو “موانع” مثلًا. أهميتها أنها تفصل بين عالمين، أو بالأحرى بينه وبين الخارج، ولهذا كان يتمنى أن تكون أكثر سماكة، كي يكون الانفصال أمتن وأقوى لا يهدده تشقق هنا أو فجوة هناك أو ثقب. فالجدران أن تلعب دور الحامي من الخارج: الجلبة، الضوضاء، الأصوات، الصراخ، وقع الأقدام، لعلة الرصاص، دوي الهتاف. أي كل ما يصنع الحياة في ذلك “المقلب” أو “المنقلب” الآخر.
ولطالما ود السيد وتمنى أن تكون هذه الغرفة في جبل متباعد أو كهف أو في غابة عذراء، لكن تعذر عليه تحقيق هذه الأمنية لأسباب كثيرة، منها أن البلاد التي وُلد فيها وعاش تساوت فيها الجبال بالسهول والأرياف المدن، فلم تعد هناك مدينة بالمعنى المألوف، ولا ريف، ولا قرية، تداخلت كلها في موازييك غريب يجمع بين التناقضات ما يفرِّق ومن التآلفات ما يقرِّب. والناس في الأعالي لا يختلفون كثيرًا عن الناس في السواحل، كأنهم دُمغوا جميعًا بعلامة واحدة، وبعواطف واحدة، وبعقليات واحدة. يأكلون مثل بعضهم، يشربون مثل بعضهم، يلبسون مثل بعضهم، يصلون يقتلون وينقتلون، يتناسلون ويموتون ويكبرون ويحبون ويكرهون وينامون ويستيقظون ويتكلمون ويصمتون مثل بعضهم. فكأن شخصًا واحدًا يمكن أن يختصر كل الناس، أو كل الناس يمكن أن تجدها في شخص.
حتى الشجر في الجبال يشبه الشجر في المدينة، دائمًا يخبئ في جذوعه وفي شروشه وفي غصونه وفي ظلاله ما يخيف لا ما يخلب، وما يوحي بالغموض وبالفناء لا بما يوحي بالوضوح والحياة. فالأشجار في كل البلاد كأنها أشكال عدمية، شخوص لا تعرف لماذا ما زالت واقفة أو منحنية أو لماذا هرمت أو لم تهرم أو لماذا تحمل ثمارًا أو لا تحمل ثمارًا. فهو الذي أحب الأشجار صغيرًا لم يعد يحس نحوها بأي شعور، كان يعانقها فتصير كالهواء بين يديه، وكان يتسلقها وكأنه يتسلق ضوءً شفافًا وكان يلتجئ إليها كما يلتجئ إلى مكان آمن وحنون، بل وكان يحس بينبوع حت كل شجرة، بل وكان أحيانًا يقلد وقوف الأشجار، وحفيفها، وميلانها، واهتزازها، وصمتها.
وكان أحب إليه السرو، والصفصاف والحور، والزيتون، وإن اختلفت أسرارها وأشكالها وروائحها. ويذكر أن أول ما حاول رسمه في طفولته شجرة وتحتها ينبوع، وظن من رأى “الرسم” أن الشجرة تشبه الهواء، وأن الينبوع امرأة مرسلة الشعر والصوت. ويظن أن علاقة الناس بالشجر لم تعد تختلف كثيرًا عن علاقته بها، فهم يقطعونها في الجبال والغابات والمدن بغزارة مشهودة وبآلية باردة، كما يقطعون شرائح اللحم، وتحولت مع الوقت إلى كتل متعاقبة متتالية بلا تاريخ ولا رمز ولا حتى جمال. لقد تركوا أمر الاندهاش والتمتع بها للأطفال وللقاصرين. يذكر جيدًا كيف يغزو “المؤمنون” في أعياد الميلاد غابات الصنوبر ويقطعونها من جذوعها، ثم يعرضونها للبيع، لتعلق فيها اللمبات والزينة احتفالًا بالمناسبة المجيدة. بالطبع تغير شيء من هذه العادات إذ استبدلت الشجرة الحقيقة بشجيرات من البلاستيك المصنوعة لهذه الغاية، وكثير من أطفال المدينة لم يتسن لهم رؤية شجرة حقيقة إلا في أفلام السينما أو المسلسلات التلفزيونية، لا يفرقون بين شجرة أصلية وأخرى مفبركة، ولا يميزون أحيانًا بين عبق صنوبرة من الجبل وعبق أي صنف من أصناف الخضار. في الماضي كان يتأثر عميقًا بهذا الواقع، ويدعو إلى حماية البيئة الطيور والأشجار والهواء من التلوث، والحشرات والزواحف والأنهار والبحار والكهوف، ويدعو الأجيال الجديدة إلى التعرف إلى الطبيعة مصدر الحياة والنقاء والصفاء والطهارة وإلى عدم التخلي عن عادات القرى والدساكر والأرياف والجبال وعن ناسها، ويذكر أنه كان ينتظر “عيد الشجرة” وأغاني الأخوين فليفل وخطب الرسميين والمدرسين والتلامذة بفارغ الصبر.
لكن ماذا حدث؟ لا شيء وكل شيء أيضًا. الحروب فضحت وأزالت الفروق بين كل الأمكنة والبشر، وبدا له بعد كل الفظائع والمجازر أن أهالي الأعالي وسكان الهواء النقي وجيران الشجر والينابيع والثلوج كانوا من سواد كثيف صفيق ومن نفوس شرسة قاسية لا تعرف الرحمة، أولم يرتكب كل أو معظم المجازر أهل الجرود وأبناء الطبيعة الساحرة والغارفون من الينابيع وسكان المرتفعات، والمزروعون في الأرياف الطهور والمباركون بالصلوات والعادات الأصيلة! أولم يغز هؤلاء المدن ويدمروها بغرائزهم الصافية، وبوحشيتهم اللامحدودة! أولم يحرقوا الغابات بنشوة عارمة وبغبطات نادرة؟
ولهذا لم يعد يجد أي فارق بين أن ينزوي في أعلى قمة ن قمم البلاد، أو في أصغر قرية، وبين أن يقطن في المدينة. والإنسان يمكن أن ينعزل حيثما شاء، والعزلة هي في الروح وكذلك في الجسد ولو بين ملايين الناس، وإذا تساوى كل شيء في الأعالي كما في السواحل كما في السهول تسقط المفاضلة. إضافة إلى ذلك إن السيد يطمئن إلى حي مكتظ ومختلط ومتكاثر أكثر من اطمئنانه إلى قرية صغيرة معروفة فيها كل الأسماء والتواريخ والغرائز والنزوات والأمكنة. فهنا، أي في المدينة، يمكن للمرء أن يذوب فيها، أن يعلن وفاته، وأن ينقطع عن الناس، وعن الحياة نفسها، وهذا مستحيل في القرى التي تعد سكانها كل يوم، تتفقدهم. فالقرية ذاكرة، والمدينة نسيان. إضافة إلى أن أهل القرى والأرياف فضوليون، حشريون، ثقيلو الظل. يمكن، وبدون إنذار، أن يقتحموك في منتصف الليل أو قبل شروق الشمس، ولا مكن أن يسامحوك إذا لم تشترك في مناسباتهم وفي أفراحهم وفي أتراحهم وفي مشاكلهم، فأنت واحد من قبيلة مهما تباعدت. حتى عندما مُدنت القرى والدساكر وازدهرت بفضل الحروب، وتكونت فيها ما يشبه الحواضر، فإن هذه الفضولية لم تضعف. فالقرية أو البلدة أو الدسكرة يجب أن تكون بباب واحد، يدخل ويخرج منه الجميع.
لكن إذا تجاوزنا العزلة التي يتمسك بها السيد ويعمقها بممارسة يومية صارمة، وقاسية، فإن أسبابًا أخرى لا يجهر بها ولا يحب أن يتذكرها، وراء مغادرته البلدة (القرية) بل يمكن القول إنها أكثر من أسباب موضوعية وظروف: هي جروح، جروح في كل مكان، في الجسد، وفي الروح، وفي الفكر، وفي التذكر، وفي الأمكنة، وإذا استطاع المرء أن ينسى الأسباب والذرائع فكيف يمكن أن ينسى الجروح“.
* النص من كتاب (منديل عطيل ) فصل ( أربعة جدران أخرى ) الصفحات من 57-62.
الأربعاء 16رمضان 1442هـ الموافق لـ 28أبريل 2021