أنا أتواصل.. فأنا حيّ

وهكذا أصبح الفرد محرّكا سرديًا لا ينطفئ، تستدرجه كل فرص التواصل مع الآخرين التي توفرها التقنيات الجديدة إلى سرد ذاته. تحرضه علامة الـ«أونلاين» على تواصل مع الآخر هو في الواقع سردٌ لا ينقطع للذات. وما يثير الاهتمام أن أكثر ما يسمى قصة في الوسائط الاجتماعية زائلٌ وعابر ويدمّر نفسه بعد أربع وعشرين ساعة من مشاركته. 

علي المجنوني في مقاله: كيف أصبح كل شيء قصة.

لا يكاد يمرّ يوم على أحد منّا إلا وهو يسأل نفسه السؤال: هل أنا بحاجة للانغماس في بحر المعلومات الذي يواجهني، أو أنّ العزلة المطلقة هي ما تصلح لي؟ وهل لو تأمنّ لي مستلزماتي الأولية القادرة على سدّ احتياجاتي هل سأستغني عن العمل؟ هل الراحة هي الأصل أو العمل؟ وهل نحن وحدنا؟

ديفيد هنري ثورو [ ولدن ] صـ 11

كثيرة هي الكتب التي تحكي عن العزلة وضرورتها لالتقاط الأنفاس، والأمر ليس متعلقاً بمجتمع صناعيّ كالذي نحيا فيه، لا يكاد المرء يفتح عينيه فيهما حتى يغلقهما من شدّة التعب والسعي، ودون وعي كامل بما جرى فيه.. وتمضي السنون عليه وكأنّها أيام أو أسابيع ثم يفجؤه المرض أو الموت وهو لّما يشعر في قراره نفسه أنّه عاش حقاً، بل حتى في المجتمعات القديمة البسيطة نسبياً والتي لم يكن قد وصل لها قطار التقدّم والرفاهيّة كما هو الآن.
ومن الكتب التي مرّت بي عن العزلة وفضلها كتاب [ ولدن ] لديفيد ثورو، والكتاب في زمنه (القرن التاسع عشر الميلادي ) كان ثورة ضد عادات المجتمع التي تلزم المرء بأشياء لا يحبها ولا يرغب بها.
وأرشح لكم قبل قراءته الاطلاع على ما كتبه ممدوح في تدوينته [ والدن.. كاهن الغابة ].

غلاف الطبعة الإنكليزية من كتاب [ ولدن ]


أعجبني ما قاله أحد الأصدقاء عن العزلة أنّ أحدهم ينعزل فترة من الزمن ثم يأتي ليخبرنا ما فعل في وقت العزلة! وهذه المفارقة المضحكة التي قد نقع فيها كلنا تشي بنوع من اللذة والمتعة في الحديث عن النفس خصوصاً حين تقوم بعملٍ مفارقٍ للعادات المتبعة في مجتمع ما، مع أنّ هدف العزلة الحقيقي= الانتفاع بها شخصياً والنظر إلى داخل النفس لا خارجها، لكن ذلك لايمنع من المشاركة في التجربة – بعد انقضائها – وحبذا لو كانت موضوعيّة دون مسحة بطولة.

من الأشياء التي عوّدتنا عليها وسائل التواصل الاجتماعي [ فورية التفاعل ] وجرعات الدوبامين اللحظية، فأنت تكتب منشوراً ويأتيك في الوقت نفسه التفاعل عليه، وتضع تغريدة فيأتيك الرد في لحظتها، وتنشر صورة لك فتجد بعد دقائق “قلوباً” عليها.
وهذا عكس ما تربيه التدوينات في النفس من “تأخير” المتعة أو حتى فقدانها تماماً بعدم رؤية التفاعل، فأنتَ هنا تكتب لا لتتلقى المديح، ولا تنتظر تفاعلاً عاجلاً، بل تكتب لأنّك ترغب بذلك، وربما تأتي الفوائد لاحقاً، وقد يقرؤك عدد كبير دون أن يعبّروا عن إعجابهم بما قرأوا.. وهذه نقطة تُحسب لها بأن تربي نفسك على البذل دون انتظار المكافأة.

شخصياً لا أعرف أي الأمرين أفضل، لكني أحبّ أن يكون التواصل بين البشر تواصلاً سليماً صحيّاً غير مشوب بمصلحة مؤقتة، وأن تستمر آلية التفاعل البشري بالحضور الذاتي، والابتسامة، والكلام المنساب المعبّر عن حقيقتنا.
أتمنى ألا يسرقنا الوقت لكي ننظر وراءنا في مشوار حياتنا ونراها مجرّد “شذرات حياة” أن نحيا حقاً بالتواصل الفعّال الذي يتحول بعد مدة إلى جرّة ذكريات محسوسة نأخذ منها في أوقات العوز، ونتكئ عليها في الليالي الجافة.

يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ (لِتَعَارَفُوا) إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ.

مصدر الصورة البارزة: unsplash

الثلاثاء 15 رمضان 1442هـ الموافق لـ 27 أبريل 2021 م.

اترك رد