تربية القرآن بتهذيب النفس

تكاد بعض الآيات حين تقرؤها بتدبر وتمعّن مخالطة قلبك من جمال معانيها، ودقة توصيفها
قبل يومين؛ قرأتُ آيتين وجعلتُ أفكّر فيهما قبل أن أتوجه لكتب التفسير للنهل من معانيها ومعرفة أسباب نزولها فكانت درساً عجيباً

الآية الأولى: ﴿لا تَمُدَّنَّ عَينَيكَ إِلى ما مَتَّعنا بِهِ أَزواجًا مِنهُم وَلا تَحزَن عَلَيهِم وَاخفِض جَناحَكَ لِلمُؤمِنينَ﴾ [الحجر: ٨٨]
والآية الثانية: ﴿ وَلا تَمُدَّنَّ عَينَيكَ إِلى ما مَتَّعنا بِهِ أَزواجًا مِنهُم زَهرَةَ الحَياةِ الدُّنيا لِنَفتِنَهُم فيهِ وَرِزقُ رَبِّكَ خَيرٌ وَأَبقى﴾ [طه: ١٣١]

يأمر الله تبارك وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلّم بألا يمد عينيه ويتطلعَ بقلبه إلى رزق غيره – وحاشاه أن يفعل – لكن هنا ألمح تربية إيمانية له، وللصحابة، ولنا من بعده
من طبائع الأشياء التي لا انفكاك عنها بروز فكرة “المقارنة” في كل شيء.. بدءاً بالأشياء المادية، وحتى المعنوية، ففلان بيته أكبر من بيتي، وراتبه أكثر من راتبي، وعمله أفضل من عملي، ووجهه أجمل من وجهي، ومكان سكنه أفضل من مكان سكني، وحظّه أفضل من حظي ( ويمكنكم وضع قائمة لا نهائية من المقارنات التي تعرفونها والتي ترتبط ارتباطاً مباشراً بحياتنا اليومية)
هل فكرة المقارنة دائماً سيئة؟ الحقيقة أنّها لا؛ فليس كل مقارنة تؤدي إلى التسخط وتنزع الرضا من قلب العبد، لكن فكرة “الاستحقاقية” هي التي قد تؤذي إيمان العبد، وتودي به إلى حافّة الشكّ وعدم الرضا

ما منّا أحدٌ إلا ويرغب بأن يكون وضعه الماديّ في أفضل حال، وصحته كذلك، وعلاقته، وكل شؤون حياته، وليس تطلّب الحياة الكريمة عيباً ولا مثلبة
لكن الملمح الذي أراه من الآية هو أكبر من مجرّد المقارنة، إنها تربية للنفس على غض البصر عمّا عند الآخرين مما لا حظّ لي فيه ولا مكسب، وكذلك الأمر تعويدها على الرضا بما بين يديها من نِعَمْ
جرّب افتح حسابك في إنستاغرام لمدة نصف ساعة، وشاهد قلبك كيف يكون بعد جولة على حسابات مشاهير يتجولون في بقاع الأرض، ويأكلون ما لذّ وطاب
لا تكذب على نفسك وتقول إنّك لا تتأثر بما تراه، فهذه حقيقة مشاهدة يعرفها كل واحد فينا، كل مانراه/ نسمعه/ نقرأه / نعيشه يؤثر فينا بشكل أو بآخر، لكن السعيد فينا من يعرف ماهي الأسس التي بُنيَت عليها هذه المُتع، وما هي مآلاتها
وفي ملمح آخر وهو إغلاق باب الحسدُ عن الآخرين، فالتطلّع لما بين يديهم قد يثير فيك شعوراً بالحقد عليهم – وهم لا علاقة لهم بذلك – أو الغيرة المرضية التي تلتهم قلب صاحبها بنارٍ لا تنطفئ
لا تمدّن عينيك إلى شهادات الآخرين وأنت لم تنلها
لا تمدّن عينيك إلى بيوت الآخرين وأنت تسكن في بيت متواضع
لا تمدّن عينيك إلى علاقاتهم، حيواتهم، مشاربهم، مآكلهم
لا تمدّن عينيك إلى ما غاب عنك، والتزم الأمر الرباني والهديَ النبوي

أما تفسير الآية ﴿وَلا تَمُدَّنَّ عَينَيكَ إِلى ما مَتَّعنا بِهِ أَزواجًا مِنهُم زَهرَةَ الحَياةِ الدُّنيا لِنَفتِنَهُم فيهِ وَرِزقُ رَبِّكَ خَيرٌ وَأَبقى﴾ [طه: ١٣١] كما جاء فيالتحرير والتنوير” لابن عاشور رحمه الله

وَمَدُّ الْعَيْنَيْنِ: مُسْتَعْمَلٌ فِي إِطَالَةِ النَّظَرِ لِلتَّعْجِيبِ لَا لِلْإِعْجَابِ، شُبِّهَ ذَلِكَ بِمَدِّ الْيَدِ لِتَنَاوُلِ شَيْءٍ مُشْتَهًى. [ 1]

وَجُمْلَةُ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى تَذْيِيلٌ، لِأَنَّ قَوْلَهُ وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى آخِرِهِ يُفِيدُ أَنَّ مَا يَبْدُو لِلنَّاظِرِ مِنْ حُسْنِ شَارَتِهِمْ مَشُوبٌ وَمُبَطَّنٌ بِفِتْنَةٍ فِي النَّفْسِ وَشَقَاءٍ فِي الْعَيْشِ وَعِقَابٍ عَلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ، فَذُيِّلَ بِأَنَّ الرِّزْقَ الْمُيَسَّرَ مِنَ اللَّهِ لِلْمُؤْمِنِينَ خَيْرٌ مِنْ ذَلِكَ وَأَبْقَى فِي الدُّنْيَا وَمَنْفَعَتُهُ بَاقِيَةٌ فِي الْآخِرَةِ لِمَا يُقَارِنُهُ فِي الدُّنْيَا مِنَ الشُّكْرِ.[ 2 ]

وخَيْرٌ تَفْضِيلٌ، وَالْخَيْرِيَّةٌ حَقِيقَةٌ اعْتِبَارِيَّةٌ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ نَوَاحِيهَا. فَمِنْهَا: خَيْرٌ لِصَاحِبِهِ فِي الْعَاجِلِ شَرٌّ عَلَيْهِ فِي الْآجِلِ، وَمِنْهَا خَيْرٌ مَشُوبٌ بِشُرُورٍ وَفِتَنٍ، وَخَيْرٌ صَافٍ مِنْ ذَلِكَ، وَمِنْهَا مُلَائِمٌ مُلَاءَمَةً قَوِيَّةً، وَخَيْرٌ مُلَائِمٌ مُلَاءَمَةً ضَعِيفَةً، فَالتَّفْضِيلُ بِاعْتِبَارِ تُوَفُّرِ السَّلَامَةِ مِنَ الْعَوَاقِبِ. [ 3]

[1] التحرير والتنوير/ تفسير سورة طه / صـ 340
[2] التحرير والتنوير / تفسير سورة طه / صـ 340
[3] التحرير والتنوير / تفسير سورة طه / صـ 341

الأحد 13 رمضان 1442هـ الموافق لـ 25 أبريل 2021م .

مصدر الصورة البارزة: unsplash

4 تعليقات

  1. هاتان الآيتان كانتا -وما زالتا- من أعظم مُعلميّ العام الماضي. وقد رأيت مخالفة هذا التوجيه ومدّ العين إلى ما أنعم الله به على الناس وما تؤدّي إليه هذه المخالفة، وكان ما رأيت مِن أقبح ما رأيت في حياتي والله، ولم أملك إلا أن أشكر الله وأحمده على عظيم فضله عليّ أن جنّبني مثل هذا المآل وعافاني وعلّمني وهذّبني. الحمدلله كثيرًا.

    مدّ العين تضييعٌ للرضا.

  2. تأمّل عظيم، وأعتقد أن هذا التهذيب الربّاني هو أحوج ما نكون إليه في عصرنا المملوء بالتفاخر وعقد المقارنات.

اترك رد