
مقدمة:
“ربما لا نشعر بالخوف من التعرض للأذى من قبل شخص لم يرنا في الحياة الواقعية؛ وفي رغبة عاجلة لتكوين رابطة معه نكشف الأسرار عن حياتنا بلا تردد”وهذا ما دعته “ماري آكين” باسم غرباء في قطار، وكيف أنّنا ننجرف للبوح بأشياء حميمة جداً لأشخاص لا نعرفهم ظنّاً منّا أنّ هذه “الفضفضة” لن تؤثر علينا، فهل هذا الشيء صحيح؟
«حين يتصادم البشر مع التكنولوجيا»
بهذا العنوان استفتحت ماري كتابها والذي يدرس بشكل تفصيلي أثر الواقع السيبراني على حياة البشر.تبدأ ماري بقولها إنّ المرحلة التي نعيشها اليوم في ظل الانفتاح التكنولوجي تشبه إلى حد بعيد حقبة التنوير التي سادت مطلع القرن [ 17 و 18 ] الميلادي، حيث أنّ الفضاء السيبراني أصبح مزحوماً لدرجة مرعبة، وتقول التوقعات إنّه بين عامي 2005- 2015 تضاعفت أعداد الأشخاص على الإنترنت 7 أضعاف.
أول ما تؤكد عليه ماري أنّ الفضاء السيبراني ليس شيئاً افتراضياً كما نحن نظنّ، بل الحدّ الفاصل بين الواقع والافتراضي يكاد يكون معدوماً،وهذا ما يدعونا إلى إعادة النظر في طبائعنا، وكيف أصبح تقريباً كل الناس الذين نعرفهم مهاجرين إلى الفضاء السايبراني، وهذا ما يدعونا لمعالجة كل القضايا في ظل هذه التغيرات.
الفصل الأول: الشذوذ يتحوّل إلى حالة اعتيادية:
تقول ماري إنّه من الأوهام المنتشرة أنّ البيئة الافتراضية أكثر أمناً من البيئة الواقعية، أو أن يظن الشخص كونه متخفياً وراء اسماً وهمياً سيكون أكثر حماية لنفسه وهويته، وهو ما يشجع حالة “الاعتداد بالنفس”.
وتقول أيضاً إنّ حالة الشذوذ [ وليس الشذوذ الجنسي فقط ] بل كل فعل شاذ مهما بدا غريباً سيجد له مصفّقون في البيئة السايبرانية، وكيف أنّ هناك مواقع غريبة جداً ومتاجر وتجمعات لبيع أشياء غريبة وتعويذات جنسية ما كان لها الانتشار لولا وجود البيئة المشجعة لذلك.يضاف له نشر الروايات والأفلام والمسلسلات الحوارية وتقديم الإعلام لذوي الاهتمامات الغريبة كنوع من الحريّة الشخصية ساهم في جعل أي شيء غريب مقبول اجتماعياً بكثرة عرضه وتكرار أنّه فقط مختلف عنك.
ومن الأشياء الخطيرة التي نبّهت لها في هذا الفصل حديثها عن [التآلف السيبراني ] وكيف أنّ البيئة السيبرانية حاربت الوحدة والعزلة عن طريق فتح باب التعاطف والألفة لأي شخص ينضم لمجموعة ما، وهذا ما أستطيع تسميته بالشللية، فالقراء ومحبي القطط ولاعبي الكرة ومحبي الأغاني العاطفية والمهتمين بتاريخ الفراعنة كلّ واحد من هؤلاء سيجد شلّة ينضم لها، وهذا بحد ذاته ليس شيئا ًسلبياً، لكن الأثر الذي يستتبع هذا الانضمام وتأثيره على سلوكيات أعضاءه هو ما يستدعي الانتباه.
وتقول إنّ المباهاة في الفضائح وخصوصاً عند المشاهير أصبح سمة رائجة في الفضاء السيبراني وليس له من تفسير سوى ما يعرف باسم [ الافتضاح السيبراني ] وهو أمرُ مقصود لذاته ويفعله السياسيون والمشاهير بغية البقاء في الأضواء وجلب الأنظار إليهم حتى ولو عرضوا أنفسهم لمهانة وإذلال.
الفصل الثاني: إدمان الإنترنت:
في الأعوام الماضية دخلت كلمة “إدمان الإنترنت” على القواميس اللغوية الغربية، وأًصبح لها تصنيف في أغلب الدراسات النفسية التي تعالج مشكلة الإدمان عموماً، وتوضح المؤلفة أنّ السبب الرئيس الذي يدفع المستخدم للإدمان على الإنترنت أشياء كثيرة لكن أبرزها ما سمّته ” الإغراء المتقطع” أو “متعة الفشل” وشبهته بالطريقة التي يتعامل بها الفرد عند شراءه بطاقة يانصيب وهويعلم بنسبة 99% أنه لن يفوز بها ومع ذلك يشتريها على أمل الفوز مرّة.
وكيف أنّ الجرعات الصغيرة التي تمنحها مواقع التواصل الاجتماعي من الدوبامين للدماغ تجعله مرابطاً أمام الأجهزة على أمل أن يأتي شيء جديد يسرّه.
واجترحت المؤلفة عبارة” أنا أبحث إذاً أنا موجود” وكيف أنّ الفضول وحده هو ما يجعل الشخص يجلس ساعات طويلة دون فائدة حقيقية وهو يشعر أنّه يحسن صنعاً.
ثم تنتقل إلى فكرة اختبار الإدمان وكيف أنّ 12% من البالغين في أمريكا مصابون به، و90% من الشعب الأمريكي يستخدم الفضاء السيبراني بشكل فوق الحاجة.
ثم تعرّج على فكرة “التسوق القهري” وكيف يؤثر على السلوكيات عند البشر، ومن ثم تذكر فكرة إدمان الألعاب الإلكترونية وإدمانها وخصوصاً من قبل الشباب المراهق، وأنّ”اضطراب ألعاب الإنترنت” يصيب فئة كبيرة من الشريحة العمرية بين 12-20 عالمياً.
ونبّهت إلى أنّ مواقع الإنترنت وتطبيقات التواصل الاجتماعي والألعاب مصممة خصصياً كي يُدمن عليها الشخص.
الفصل الثالث: أطفال السيبرانية:
وهذا فعلياً أخطر فصل فيما يخصّ الأطفال في هذه البيئة لأنّهم المتضرر الأكبر، ونادراً ما يُتنبه لهم، وكيف أن طغيان الواقع السيبراني جعل الأطفال ينشئون في بيئة غير صحيّة، و أنّ كل برامج إلهاء الأطفال الإلكترونية لا تساهم في نموهم نموا طبيعياً ولن يكون أبداً بديلاً عن صوت الأم والأب الحقيقيين، وعن الألعاب البسيطة التي تناسب عمره.
وتقول بصراحة: “إنّ الإنترنت بيئة غير صالحة للأطفال قبل الـ 14″، فما بالكم بأطفال يكون مهم أجهزة ويتاح لهم الدخول على الإنترنت في سن الثالثة والخامسة!؟
الفصل الرابع: فرانكشتاين والفتاة الصغيرة:
تقول المؤلفة: “هل تأخذ طفلك إلى مدينة نيويورك وتتركه هناك وحده؟ هذا بالضبط ما تفعله حين تتركه وسط الفضاء السيبراني وحده”.
المرحلة العمرية من حياة الطفل من عمر 4 إلى عمر 12 تعدّ من أبرز المراحل التي يتم فيها تشكيل هويّته ومعارفه وعلومه، والأرقام المفزعة تقول إنّ 84% من الأطفال في هذا العمر قادرون على الولوج إلى شبكة الإنترنت وهذا ليس أمرًاً مفرحاً.
تؤكد ماري أن هناك أكثر من 20 مليون قاصر مشترك في الفيس بوك مع أنّ العمر المحدد لاستخدام هذه المنصة هو 13 سنة، وأنّ الطفل مفطور على الاستكشاف والفضول وهناك أشياء كثيرة [ إباحية ونفسية وعنيفة ] لا تصلح للأطفال ولا لنفسيتهم.
ثم تحدثت عن “تأثير المتفرّج” وكيف أنّه كلّما زاد عدد الحشود المشاهدين لجريمة ما، أو حدثٍ يتطلب تدخل ما، فإنّ احتمالية التدخل تقلّ كلّما زاد عدد الحشود، حيث تقلّ المسؤولية عنهم بازدياد العدد تحت احتمال “لا بدّ أن يتدخل أحد لكن ليس أنا”.
طبعاً هناك شروحات كثيرة لهذا المصطلح، وتفسيرات نفسية وعلمية له، لكن ما يهمني فيه هو ما يتصل بحياتنا اليومية وخصوصاً على مواقع التواصل الاجتماعي، حين يتعرض شخص ما للتنمّر مثلاً أويتعرض للتحرش اللفظي، ويقع هذا تحت سمعنا وبصرنا، فإنّ نسبة من يهبّ لمساعدته والدفاع عنه تكون قليلة.
وهذا ما يفسّر بعض الحالات التي ربما نراها في الأفلام والواقع عندما يتعرض أحدٌ ما للسرقة أو الاعتداء فإنّك ترى الغالبية تشاهد الحدث دون أن تتدخل، ربما تكون منزعجة مما يحدث، لكن يدور في خاطرها أنّ شخصاً ما سيتدخل ويساعد لكن ليس أنا.
هذا بالنسبة للكبار، فكيف سيكون الأثر على الأطفال؟وتختم قولها بأنّ الرقابة الأبوية ليست حلاً جذرياً بل ربما يكون المرونة والتفهم والاستماع للطفل ومراعاة ظروفه مع الحسم والضبط قد يؤتي نتائج جيدة.
الفصل الخامس: مراهقون وقرود ومرايا:
رأيي أنّ هذا الفصل من أجمل فصول الكتاب لما فيه من لمسات نفسية وتحليل لما وراء الأفعال التي نراها عادية، وتبدأ بالحديث عن السيلفي وكيف أنّ المراهقين عموماً لا يأبهون لما يفعلونه في الفضاء السايبروني، وأنهم في بداية عمرهم يسعون قدر الإمكان لإثبات ذواتهم وهويتهم، وبعضهم لديه “احتياج مرضي” للاهتمام.
النقطة الأساسية برأيي في هذا الفصل هو التأكيد على أنّ لكل مستخدم للإنترنت ذاتان، واحدة افتراضية والثانية واقعية، وكل واحدة منهما تتغذى على الأخرى، وأنّ مواقع التواصل تساعد على بناء الذات السايبرانية وتضخميها وتجميلها، وفي العموم فإنّ المستخدم يستمد نظرته لنفسه من خلال 3 محاور: – نظرته لنفسه في الواقع -القيمة التي يضيفها-الرغبة في إثبات ذاته من خلال تفاعل الآخرين معه وكيف أّنّ المراهقين لديهم حساسية خاصة تجاه ذواتهم وبعضهم مصاب فعلياً بالنرجسية المرضية التي تسعى دوماً للفت النظر والسعي نحو الإعجاب.
تقول ماري: إن كل مراهق يضع هذه القاعدة أمام عينيه حين ولوجه لعالم الإنترنت:” أرى من السهل أن أكون نفسي على الإنترنت أكثر من أن اكون مع الناس وجهاً لوجه”.
الفصل السادس: رومانسيات الفضاء السايبروني:
تحدثت في هذا الفصل عن علاقات الحبّ الناشئة عبر الإنترنت، وكيف أنّ الحب الافتراضي إن بقيَ في هذا الفضاء فهو غير حقيقي بشكل كامل، وكيف أنّ المرء يفعل ويقول أشياء لا يفعلها عادة في الواقع متأثراً بفرضية “عدم رؤية الآخر”.
تقول ماري:” إذا كان الانطباع الأولي إبجابياً فإنّ الفراغات التالية من العلاقة ستملأ تلقائياً بشكل جيّد”.
ثم تعرّج على ذكر أشهر مواقع التعارف [ تيندر وأشلي ماديسون ] وعدد الخيانات الزوجية وأسبابها وتوضحّ أن الخيانة في هذا الفضاء أسهل وأيسر وأقل كلفة.
الفصل السابع: السايبركوندريا ينبوع القلق:
في هذا الفصل تتحدث بشكل مفصّل عن أمر يقع لنا جميعاً حين نبحث على الإنترنت وبشكل خاص عن المعلومات الطبيّة، كيف أنّ الأمر يبدأ استكشافاً وفضولاً ثم يتحول لقلق قد لا يكون له أي أثر من الصحة، وقالت إنّ هذا الأمر يخضع لمرشّحين أساسين: الشك و الخطر المحتمل.”
الشبكة العنكبوتية تملك القدرة على تصعيد القلق لدى الناس الذين يفتقرون للخبرة أو لديهم خبرة قليلة”وأنّه يُدفع سنوياً 20 مليار دولار على استشارات طبية غير ضرورية والسبب الرئيس هو “القلق غير المبرر”.
الفصل الثامن: أسرار وخفايا الأعماق:
وفي هذا الفصل تتحدث الكاتبة عن الإنترنت المخفي Dark web وشبهته بالبحر الكاريبي في القرن 17-18 وأنّ القراصنة الذين يخوضون فيه يشبهون إلى حد كبير القراصنة في ذلك العصر، وكيف أنّ كل ما نستخدمه من إنترنت لا يمثل سوى 2 -4 % من رأس جبل الجليد، والباقي كله مخفي.وما يجعل الإنترنت المخفي مربك كونه غير منظم وغير قانوني وبيئة خطرة لانتشار الجريمة ويصعب على الحكومات ضبط حركته بشكل دقيق، ثم تتحدث عن كون “البيتكوين” خرج إلى الناس من هذه البيئة الغريبة، وأن أغلب هجمات المخترقين المحترفين تبدأ منه، وحتى شركات الحماية غير قادرة على صدّ هجمات البرامج الضارة سوى بنسبة 5 بالمائة فقط.
الفصل التاسع :الجبهة السيبرانية:
الفصل الأخير وفيه تعرض فكرة أنّ الهروب من معالجة المشكلة ليس حلاً وأنّ الإنترنت جعلنا وجهاً لوجه أمام التيار ولا مناص من المواجهة، وحت لو فضّلت الانعزال كلياً فهذا لن يكون حلاً فالآثار ستلاحقك أينما كنت، وتضع بعض الحلول لمعالجة أخطار السايبرانية المفتوحة، بزيادة الوعي والقراءة والإدراك لأخطارها، وبالتفكير جدياً بكيفية الاستفادة منها دون الوقوع في براثنها، وأنّ الحلول الفردية لا تنفع إن لم تؤطر بقوانين دولية وعالمية ترعاها ومبادرات إنسانية تحمينا من أضرارها.” إنسانيتنا هي أثمن ما نملكه من مدخرات تتعرض للخطر،وعلينا حمايتها بكل السبل”.
خاتمة:
طبعاً هذا كلّه لا يُغني عن قراءة الكتاب الأصل الذي أراه مهماً لكل مستخدم لشبكة الإنترنت.
حاولت قدر الإمكان الإلمام بأغلب أفكار الكتاب دون الانزلاق لشرح تفاصيل الموضوع، وفي نفس الوقت ذكر بعض الأفكار الرئيسية لمن لا يطيق قراءة الكتاب كاملاً.
*المراجعة منشورة في حسابي في الـ goodreads لأول مرة.
السبت 12 رمضان 1442هـ الموافق لـ 24 أبريل 2021م.