عودة خجولة.. وتراويح أولى!

على تلّة منخفضة، في حيّ معزول بعيد عن الصخب والضجة، يخيّل لمن يراه أنّه هاربٌ من إحدى المسلسلات القروية.

بحذوه مقبرة بسيطة لأشخاص لا أعرفهم، ليسوا مشاهير ولا علماء دين، ولا حتى سياسيين.

فوق أحد القبور نبتت زهرةٌ حمراء، يقطر منها الندى إثر طلّ أصابها قبيل المغرب.

photo_٢٠١٩-٠٥-٠٦_٠٠-١٥-٥٤
المسجد الذي صليتُ فيه التراويح اليوم، والصورة لي.

مشهد قريبٌ من القلب، يخترقه صوتٌ نديّ لمؤذنٍ كهل، العربية في فمه كالسكّر رغم عجمته، فالأذان لا يعترف بجغرافية المكان بل بقبلة الروح.

المكان من الداخل نظيف، وهادئ، وتحوطه السكينة من كل جانب، لا صراخ، ولا صخب، ولو قدّر للمرء أن يتخيّل الهدوء في الجنة لما غادر تلك الصورة إلا قليلاً.

الأضواء خافتة، الصفوف فيه قليلة، أغلبهم أتراك، شابت رؤوسهم في الإسلام، ملابسهم نظيفة، وكلّهم تقريباً يرتدي قبعات بيضاء مخصصة للصلاة.

الإمامُ قصير القامة، أجشّ الصوت، سريع القراءة، يلحنُ قليلاً في قراءة الآيات، لكن الإمالة التي تخرجُ منه في قوله [اهدنا الصراط المستقيم] تقنص القلب.

أقول في نفسي: بمَ سيشعر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يرى قرآن ربّ العالمين يُتلى في أرضٍ بعيدة، من رجالٍ لم يعرفوا طريق الصحراء، ولم يتربوا باللسان العربي، لكنّ سهم الإيمان وجدَ مساره إلى قلوبهم فاستقرّ فيها.

بعد السلام، أنتبه إلى أنّي غريب، في بلدٍ غريب، لغته مختلفة عني، تفاصيل الحياة اليومية فيه لا تشبه ما درجتُ عليه في صغري، الوجوه لا أعرفها، من يمرّ بي في الشارع غرباء، لوهلة أسأل نفسي سؤال المستغرب القلق: ماذا أفعلُ هنا؟ لمَ أنا في هذا المكان؟ كيف وصلتُ إلى هذه النقطة؟ ثم أقول: لعل المسجدَ هو المكان الذي وضعه الله في الأرض كي يُذهب وحشةَ الغربة، هنا تنتمي إلى السماء، لا يهمّك من عرفك ممن جهلك، لا يهمّ إن صافحتَ وجوهاً مألوفة أو غريبة. أنا أنتمي إلى السماء وهذا الشرف يكفيني ليطفئ نيران الحسرة والبعد.

“رمضان على الأبواب.. يكاد يطرقها، فأطرق برأسك وفكّر قبل أن تفتح الباب أو لا تفتحه”

تقفز فوراً إلى مخيلتي صورةً قديمة في مسجد قباء بحمص، أول صلاة تراويح صلّيتها وأنا أعقلُ، لن يمرّ عليّ رمضان دون أن أذكرها وكأّنها معلّقة على جدار القلب.

تلك الصلاة لم تكن من الدنيا، وأنا لم أكن أنا، لقد أضاء نورٌ في تلك الأيام لم يزل شعاعه يعاودني مع كل صلاة تراويح أصليها، شيءٌ من الدهشة والأسرار التي تعجرُ اللغة عن سبكها في جملة! كانت صلاةً، هكذا دون قيود ولا تأطير ولا قواعد ولا مسميّات. جباهنا لم تكن تمسّ الأرض حينها، ولا أقدامنا أيضاً.

الزمان: ليلة التراويح الأولى

المكان: مسجدٌ ما في إسطنبول

الحدث: استقبال شهر رمضان

“كل حياتنا هي أيام معدودات ..ولو تأملت الآن قصة حياتك ورحلتك فيها، لوجدت أن الزمن يفقد هيبته مثل متسول يدور على الأبواب، وكان في أيامه عزيز قومه..
لو تأملت وفتشت. وقلبت. وفكرت لتعجبت: هل حقا انقضت عشر سنوات منذ ذلك الحدث؟. هل حقا انقضت خمسة عشر عاما على ما يبدو كانه البارحة؟ هل حقا انقضت عشرين عاما منذ ان كان كذا؟.
كثيرا ما نقول: كأنها البارحة.
وهذا حق. إنها أيام معدودات – والزمن فيها عزيز قوم ذل..
وبعد عشرين عاما، ربما سنقول أو سيقول غيرنا نفس الشيء على هذا الحاضر الذي يبدو اليوم طويلا عريضا..
لكنه أيام معدودات – والزمن فيها…عزيز قوم ذل”.

هل قلت لكم كل عام وأنتم بخير؟ أو نسيت؟

 
مصدر الصورة

 

2 تعليقات

  1. “سهم الإيمان وجدَ مساره إلى قلوبهم فاستقرّ فيها.”
    هذه الجملة تحديدًا بلغت منّي مبلغ ، واستقرت في نفسي أيّما استقرا ر ..

اترك رداً على حُلمإلغاء الرد