يومٌ بسنة.. الاعتقالُ في السجون الأسديّة

يعاني المرءُ في السجن من نقصٍ في المكان، وفائضٍ من الزمان، وللأسف؛ فالمكان والزمان لا يمكنُ لأحدهما أنّ يعوّض عن الآخر
علي عزّت بيغوفيتش [ هروبي إلى الحريّة ، صـ 40 ] .

وطّي راسك ولاك .. عينك بالأرض يا حيوان !

هل آلمتك الألفاظ؟ هل شعرتَ بأنّ كرامتك؛ إثر سماع هذه اللكمات اللفظية _لو كانت موجهة لك_ بشكلٍ شخصيّ؛ جُرحتْ !!
صدقني هذا أهون ما يناله المعتقلُ في سجون/ أفرع النظام السوريّ منذ بداية الثورة وحتى اليوم.
النظام استطاع خلال فترة حكمه لسوريّا؛ دامت لأكثر من أربعين سنة أن يستثمر خوف السوريين في جعلهم يخشون أنفسهم، وألا يثقوا بالجدار  حرفيّاً ( كونه له آذان ) وأن يبلّغ الأب عن ابنه، أو المرأةُ عن زوجها في بعض الأحيان، ووصل الخوف بهم ، والقهر حكماً؛ أن يزدردَ المرء دمه، ويلعق جُرحه، وهو يهتف بحياة “القائد المفدّى” !

شلاّلٌ بشريٌّ يتحوّل _ في عُرف السجّان _ إلى مجرّد أرقام، أرقام وحسب! دون أية ميزة أو تفاوت بينهم، وتبدأ رحلة الحرب ضد الذاكرة،أليس من المضحك أنّك مع مرور ” الوقت ” تُصبح ” رقماً “و أنتَ الذي سعيتَ في نحته طوال حياتك أن تكون ” رقماً صعباً ” ؟! هاقد جاء من يعاملك كـ رقم !
كرقم فقط دون أي شيء آخر .
يذكر صاحب كتاب [ خيانات اللغة والصمت/ تغريبتي في سجون المخابرات السورية] شعوره الأول الذي داهمه بعد اعتقاله وزجّه في سجن تدمر البائس فيقول: “في الشهور الأولى تعددت أسمائي، أعني أرقامي، تبعاً للمنفردات التي باركتني بكثير من الحنان واللعنات، ولكن الاسم الذي رافقني لزمن أطول، وعُرفت به هو السجين رقم 13 ، ربما هو رقم مشؤوم في عُرف الكثيرين خارجاً، أما في الداخل، فإنّ جميع الأرقام مشؤومة وكافرة وبنت كلب، حين يُعامل السجين بوصفه رقماً حيادياً أو لقباً ازدرائياً، وحين يطغى الرمادي على الزمان والمكان في نسق جهنميّ مطفأ وبارد وملول، تأخذ الألوان أبعاداً مختلفة، ويغدو الإحساس بالتمايز والبحث عن الذات والقبض عليها داخل الزمن، مسألة وجود أو لا وجود”.
الشمس الآن كالمرأة المعتدّة، لا ترى إلا محارمها، والآن أنت لستَ من سكّان الأرض الذين يستحقون هذه اللسعة الجميلة منها حين تشرق ( بزعم الطغاة طبعاً ) أنت محرومٌ منها كذلك.
لطالما تساءلت؛ ما مشكلة الطغاة عبر التاريخ مع الزمن؟ لمَ يكون الزمن أداة تعذيب بأيديهم ؟ هل يرغبون في قرارة أنفسهم بمنازعة الإله سلطته المتعالية على الزمان والمكان ! لا أدري صراحة .

الوقت ذئبٌ جائعٌ يأكل أحلام المعتقلين، وهو أشدّ أعدائهم في ظلمة القهر والوحدة ، ينهشُ من أيامهم الطويلة، ويكون رفيقهم غير الودود في انتظار المجهول.

لا أدري عدد الخطوط الطولية والعرضية التي يحفرها المعتقل بأظافره تجميداً للوقت، وحساباً صعباً لمرور الأيام المتتالية، هذه الخطوط التي تتحول شيئاً فشيئاً إلى حبال إعدام تلتف حول عنق الزمن لتوقفه .

تبدأ المعاناة في اللحظة الأولى التي تعرفُ فيها أن ضوء الشمس لن يكونَ حليفك في الصباح التالي، حينها تُقلب ساعة الرمل على وجهها ، وتبدأ ذرات الوقت تنسال من ذاكرة الأيام حبّة حبّة، في مشهدٍ سريالي يتكرر آلاف المرّات ولا يكاد يكون له نهاية .

أنتَ أمام نفسك.. وجهاً لوجه، لا مفرّ من المواجهة وأيّ سبيل للتهرب ستكون أنتَ الخاسر الأكبر فيها، فتأجيلُ المواجهة في الغالب يتحول لكرة ثلج تتدحرجُ وتكبرُ مع الأيام حتى تصبح عبئاً عليك.
سيأكلك الندم حينها،ستندم على أتفه الأشياء وأقّلها أهمية، خصوصاً تلك التي لم تعرها أهميّة حال حريّتك
( ستتمنى أن تعود للحريّة لتحقق فقط تلك الأشياء التي استهترتَ بها ، ولم تكن تعرف قيمتها الحقيقة حقّ المعرفة ).

الصباحُ الأوّل في المعتقل هو شروقُ شمس نفسكَ المتعبة، اليوم الأول من الاعتقال _ ويعرف ذلك كلّ من جرّبه أو ذاق مرارته_ أنّه أشد الأيام بؤساً وكآبة ، فالصدمة لا تزال عنيفة، وتبدأ الأسئلة الوجودية بالخروج من قعر الروح كأفعى استدرجها هنديٌّ بنايه؛ ينسلّ خيط الأسئلة واحداً تلو الآخر، وتبدأ الإجابات تسّاقط عليك من حواف الذاكرة..

أين أنا ؟ لمَ أنا هنا ؟ وهل سأخرج قريباً ؟ ما هي الأشياء التي سأفعلها حين أخرج؟ أحبابي وأهلي كيف تلقوا الصدمة ؟ هل بكت أميّ عليّ ؟ حبيبتي هل نذرت ألا يمسّ النوم جفنيها حتى تكتحل برؤيتي ؟ ما هو الجُرم الذي ارتكتبه حتى أجازى بما أنا فيه ؟ هل يستحق الأمر كل هذا  ؟
طوفان هائل من الأسئلة اللامتناهيّة، والتي تقرّبك من عين العاصفة كلّما أوغلتَ فيها ،

ليس أمامك سوى جدارٌ مُصمتْ لا كوّة فيه، يرتجع الصوت منه حادّاً ، يتضاعف إحساسك بالأشياء، وتتحول إلى عرائس في خيالك تلاعبها كي تتسلّى عن ثقل المكان الموبوء، وترسمُ ألواناً مفعمة بالحياة وأنتَ قابعٌ في قبوٍ محشويّ بالسواد والعفن !

لا ساعات حائط، لا شمس تشرق وقمر ينير، لا أجهزة إلكترونية تحسب الوقت الفائض، محبوس أنتَ داخل الزمان الذي تظنّه سرمديّ لا ينتهي، وليس لك إلا المقاربة والتقدير ( بوجبات الطعام التي تُقدّم أو وجبات التعذيب اليوميّة ) ومن خلالها تدرّب حاستك الوقتية على معرفة الزمان.

نومكَ وسَن، جلوسك ترقّب، بُكاؤكَ استمطار، تفكّركَ سياحة، إصغاؤكَ تسبيح، شوقكَ طائر، أنينُكَ دبيبُ شوق، كلّ شيء داخل المعتقل مختلف، تعاطيك معه له طعمٌ آخر، يصحو فيك الإنسان الحقيقيّ، وتعرضُ لك مرآة نفسك من هم الأشخاص الذين يستحقون الحياة معهم، وماهي الأفكار/المشاريع/ الأحلام التي تستحق التضحية فعلاً لتكون رقماً صعباً في حياة قاسية .

ربما لأول مرّة ترى صوتك أمامك، متكوراً على نفسه كجنينٍ قبل الولادة،قد تقيأتَه قهراً، تهمس له وتقول:أينَ كنتَ عني قبل الآن؟ لمَ لمْ ألتقيك قبل هذه اللحظة؟ أيعقلُ أن يحتاج المرء لسجنٍ خارجيّ حتى يقابلَ شعاع نفسه الداخلي !!

pexels-photo-111189

سواء كانت مدة اعتقالك يومٌ واحد أو 6 سنين، فإنّ ندوباً ستُطبع على صفحة روحك لن تُمحى بسهولة، و لابدّ أنّك ستحسّ بوخزة قلب إثر دخولك هذا الامتحان الشديد الذي لا يثبُتُ فيه إلا ” أصحاب العقيدة” أيّاً كانت، وستخرجُ منه إنساناً جديداً ،وستتبدل الأولويات لديك، وربما تتضح الصورة الكبيرة لحياتك ، وتتجلّى لك بعض الحقائق المغيبة عنك.. فالإنسان ابن تجربته، ومحنة السجن هي من أقسى ما يعانيه المرء في حياته.

لم ألاحظ خلال فترة سجني أيّ هبوطٍ في رغبتي في الحياة، لكني كنتُ على وعي بأنني أجدُ الراحة في تذكّر أنّ الموتَ ليس بعيداً عمّن في عمري، كنت أجدُ في هذه الفكرة راحة وسلوى، واحتفظتُ بها كسرٍ كبير
علي عزت بيغوفتيش [ هروبي إلى الحريّة . صـ 28 ] 

أعرفُ كثيرين يتمنّون الموت كلّ لحظة وهمْ في أسرهم معذّبون، لكني في المقابل أعرف أشخاصاً ( لا يقلّون شجاعة عن الرئيس البوسني الراحل بيغوفيتش) في تحدّيهم للصعاب، ورغبتهم الجارفة بالحياة رغم كلّ ما مرّ بهم من مآسي ونكبات، لسببٍ بسيط؛ ليس لديهم سبيلٌ آخر؛ ولسان حالهم يقول:نحنُ نربّي الأمل، ونقضم أظافر الوقت، ونسرّح جدائل الأشجار ،ونطلقُ عصافير الخيال تجوبُ الأرض عنّا، ونحلمُ كلّ ليلة بضوءٍ يتسلّل من نفق العمر،يُبددُ الظلمَ والظلام الماكث فوق صدورنا كالجبل.

2 تعليقات

اترك رد