كثيرٌ من الكتّاب.. قليلٌ من الكتابة!

“هذا الكم من الكتب العبيطة المنشورة مؤذ يا حودة”

معارض الكتب والمكتبات ودور النشر والبسطات ومتاجر الكتب الإلكترونية تطفح بألوف – ولو أردنا الدقة بعشرات الألوف – من العناوين التي تخرج شهرياً أو سنوياً، والكثرةُ من شيء ليست دائماً دليل جودة، فلمَ هذا الحنق على الإسهال في النشر؟

فرضية الكاتب

كل شخص منا ربما راوده حلم أن يكون كاتباً مشهوراً ويتصدر كتابه قائمة الأكثر مبيعاً (بالنسبة لهذه القائمة هي عندي دليل استهلاك لا دليل جودة الكتاب، بل على العكس غالباً ما يكون تقييمي للكتاب إذا كان في الأكثر مبيعاً= الأقل فائدة)، هذا الحلم الذي أصبح أسهل من أي وقت مضى بسبب سهولة النشر وقلّة التكاليف وسرعة الانتشار ورابطة المشجعين، لكن هذا الحلم – الجميل في أصله- انحرف عند كثير من الناس وأصبح “حاجة ملحّة” وضرورة لسحب الاعتراف الذاتي أمام المجتمع.

النشر للجميع.. والقراءة أيضاً

هناك صنفان من البشر بخصوص النشر – بغض النظر عن جودة المحتوى – الصنف الأول: الذي يشجع مطلق النشر بحجّة أنّها حريّة شخصية، ولكل فرد القرار في أن يقرأ ما يقع بين يديه أن أن يتجاوزه، والصنف الثاني: الذي يرى تقييد النشر بالأهليّة (وهذه الأهلية مكتسبة طبعاً ولها شروط ثانية) وبالتمكّن والجودة.
أنا شخصياً أرى نفسي بين الصنفين، فمرّة أكون مشجعاً للنشر بعمومه، ومرّة أتحرّز منه وأخشى على من يتسرّع فيه الوقوع في وهم التمكّن والشهرة.
عملية نشر الكتب ليست عملية معقدة بقدر ما هي “سوق” فيه عرضٌ وطلب، أعمدته الأساسية: دور النشر، الكاتب، القارئ. ولو فُقدَ عمود من هذه الأعمدة تخللت عملية النشر.
فالقارئ يطمح لقراءة موضوع ما بشكل تفصيلي، فيأتي الكاتب ويملأ هذا الفراغ بمحتوى يرى أنّه يستحق الانتشار، فيتواصل مع دور النشر لطباعة كتابه وضمان وصوله للقارئ.

قد تختلف هذه العملية في الترتيب فتكون البداية من دور النشر بتشجيع الكاتب وحثه على طباعه كتبه بحجّة أن “السوق/ القارئ” يحتاج، وتدور العجلة.
طيب.. أين المشكلة في كلّ هذا؟ ولمَ ننظر للأمر وكأنه جريمة تقترف؟ الحقيقة هناك أبعاد كثيرة لقضية النشر لا تتعلق بالكاتب نفسه بل بالسياق العام الذي يوضع فيه.
وبرأيي هناك عدة مؤشرات تنبّه على ضرر التسرّع في نشر كل محتوى بكتابٍ ورقي:

1- السيء يأخد مكان الجيّد: للأمانة لستُ مع المقولة الشهيرة التي راجت ونسبت للعقاد والتي يقول فيها: “ليس هناك كتابا أقرؤه و لا أستفيد منه شيئاً جديداً، فحتى الكتاب التافه أستفيد من قراءته، أني تعلمت شيئاً جديداً هو ما هي التفاهة؟ و كيف يكتب الكتاب التافهون؟ و فيم يفكرون”.
ولو عرفنا الكتب التي يعتبرها العقاد آنذاك كتباً تافهة لراجعنا المقولة جيداً قبل إطلاقها على عموم ما نراه من كتب قليلة الفائدة.
فالكتاب السيء الذي ينتشر يأخذ فرصة الكتاب الجيّد، والوقت المبذول في تصفحه وقراءته لو صُرف في الثاني لكان أفيد.

2– غرور الشهرة: وهذه تقع لمن يذيع صيت كتابه – أياً كان محتواه – ويربط بين أمرين غير متلازمين وهما: كثرة القراءة للكتاب مع التأثير والرغبة بإنتاج المزيد، لذلك نرى أن بعضهم ينشر في السنة 3 أو 4 كتب، وهذا الرقم ضخم وليس شيئاً عادياً، إلا لو كان المحتوى ذاته مكرراً ويدور المؤلف حول فكرة أو فكرتين في كل كتبه، أو كان جلّه “نسخ ولصق”.
ع الهامش كده، “استغرق امبرتو إيكو في كتابة : اسم الوردة 15 سنة، وبندول فوكو 8 سنوات، وجزيرة اليوم السابق 6 سنوات”. المصدر هنا.

3- التصدّر قبل التحصرم: وهذه مشكلة أغلب الناس وليس الكتّاب فقط، لكنها أكثر سمة بارزة فيهم لأنّ نتاجهم يصل لأيدي أناس أكثر، فبالتالي يصبح تحت الضوء، ويطلب منه الإدلاء برأيه في محافل وتجمعات، ولأنّ حصيلة خبرته الكتابية أو المعرفية قليلة، ويستحي من أن يقول: لا أعرف، ينحدر – إذا لم يكن ذا ضمير حيّ – إلى الهبد والفتي، وترى عبارة [ من تكلم بغير فنّه أتى بالعجائب ] تتلبسه كأنها ثيابه.

اكتبوا ولا تسمعوا لكلامي

يعني بعد كل هذه المقدمة هل المطلوب من الجميع التوقف عن الكتابة والنشر؟ أو لو رأى المرء في نفسه أهليّة لنشر كتابه يتوقف عن ذلك؟ طبعاً لا؛ ولم أقصد هذا بكلامي مطلقاً، بل القصد أن يعرف كل امرئ قدره على التحقيق، ولا يتشوّف كثيراً لنشر كتابه الأول وكأنّه إنجاز العُمر، وليعلم أنّ قيمته غير مرتبطة بعدد الكتب المطبوعة.
ثم من أراد بعد ذلك النشر فلن يطلب مني الإذن يعني.. فالأمر ليس لي، ولست قيمّاً على أصابع الناس وكيبورداتهم!
بالتوفيق لهم.

الخميس24رمضان 1442هـ الموافق لـ 6 مايو2021م.

مصدر الصورة البارزة: unsplash

5 تعليقات

  1. ما بات يثير استيائي حيال عالم الكتب وجمهور القراء الجدد هو الخيبة التي تكون نتاح اندفاعي وحماسي لمناقشة فكرة أو لتبادل تجارب القراءة مع من ألتقيهم ويصفون أنفسهم ” بالقراء”، لأصدم بأنهم لا يعرفون من الكتب سوى بعض العناوين التي راجت مؤخرا، لكتاب أقل ما يمكن أن يقال عنهم أنهم يرددون أفكار بليت لفرط تكرارها.
    على كل، أنا مثلك، أحيانا أردد بكل طيب خاطر: ليكتب كلُ ما شاء، وأحايين أخرى أرفض تلك السهولة في النشر.

    تدوينة جميلة فادي.

    • أتفق معاك حقيقة، ولمست مثلما لمستِ في بعض من يهتم بالكتب والقراءة أنهم يدورون في كل أحاديثهم حول عناوين معينة ومعروفة ومكررة.
      لكن الأمل يوماً أن يخرجوا من هذه الدائرة.
      شكراً لك emma

اترك رداً على «فادي»إلغاء الرد