ذاكرة الحكّائين.. السرّ في مطبخ الكتابة

الذي يودّ تعلّم الكتابة بمحض إرادته، قطعاً يتعلمها إن عثرَ على من يعلّمه قوانينها

الكتابة عن الكتابة ممتعة، وحين تصدر من أديب وشاعر متمرّس في الحقل تكون ذات متعة أكبر.

بعيداً عن سطوة الغلاف الجميل الذي كان سبباً مباشراً في الشروع به، إلا أنّه بالمجمل لم يخيّب الظن.

الكتاب مجموعة مقالات منظومة في سلكٍ رشيق، وتدور في فلك الكتابة وعوالم الإبداع، قراءة ونثراً وشعراً، يشرّح الحالات الثقافية التي تصادفنا كل يوم، ويعالج القضايا التي تهمّ القارئ العربي عموماً بلغة سهلة ميسورة.

أجمل ما شدّني في الكتاب هو بساطة الكتابة وعمقها، الكاتب لم يأنف من الحديث عن تفاصيل قد يغفل عنها الروائي الشهير، ويشعر أنّه تجاوز هذه المرحلة من الإجابة عن الأسئلة المعتادة المكررة:

لماذا نكتب؟ كيف نكتب؟ لماذا نقرأ؟ مَنْ مِنَ الكتّاب تفضل؟ ماهي أبرز الكتب التي نالت استحسانك؟ وغيرها.

والأستاذ أمير تاج السرّ لا يخفي ميله لصنفٍ من الكتابة أسماها [الكتابة التخيلية ] المبنية على عوالمٍ سردية خيالية، تستند في جزء منها للواقع، لكنها لا تبني عمارتها منه بشكلٍّ كامل، وفي نفس الوقت لا يستنكر أنماط الكتابة الأخرى ويعتبر أنّ الكتابة مدارس مختلفة، والقراءة أذواق محتلفة، وما يعجبني قد لا يعجب الآخرين، وهكذا نكتب ونقرأ ونعيش جميعاً محبّين للآداب بشتى مدارسها.
ولا يخفي امتعاضه اليسير من بعض كتّاب القصص القصيرة جداً، التي يعتبرها تعدياً على الشعر في صورته الأولى، وتشويهاً للكتابة الطويلة [ الرواية ] ومجالاً امتهنه الكثيرون دون أدواتٍ مناسبة، أو مَلَكاتٍ مؤهلة.

برأيي؛ المواضيع الهامة التي تطرّق إليها هي المواضيع التي تجيب عن الأسئلة الخفية وراء الأسئلة المباشرة، تلك التي تغوص في أعماق النفس البشرية للمبدع، وتعرّيه أيضاً أمام جمهوره، فهو إنسانٌ في النهاية وله احتياجات يومية، ويحزن ويغضب، ويبحث عن التقدير والاهتمام والمشاركة، وهذا ما لا يصرّح به المبدع، لكنه مركوز في ذاته.

يتحدث عن “القراءة المغشوشة” وكيف يغدو المرء كتلة حقد على كتابٍ ما دون أن يكلّف نفسه عناء القراءة الجادة، بل ينقد لمجرّد النقد، وعن “ضغط الكتابة وسكّرها” وكيف هي نحتٌ ذاتيٌ، واشتغال طويل منهك، لا يرى القارئ منه إلا صورته النهائية ممثلةً بنصّ إبداعيّ مكتمل الأركان، دون النظر لمراحل الحرق الذاتية التي أنتجته.

ولا بد من الاعتراف أنّ الكتابة لا تمنحُ شيئاً على الإطلاق، لا ثراء ولا نجومية، ولكن تراكمات من العذابات المتصلة، تنتهي بصاحبها إما إلى الجنون أو الموت، من دون أن يحقق شيئاً يذكر، وحتى أولئك العظماء الذين حققوا نجومية ما في الكتابة، لم يصبحوا من الشعبية بحيث يُفلتوا من شِباك الجهل بهم لدى بعض الناس.

ويتحدث عن بعض الكتب التي أعجبته ورأيه فيها، وعن معارض الكتب التي زارها، وعن حركة الترجمة من وإلى اللغة العربية، وعن ضرورة اجتراح وظيفة “المحرر الأدبي العربي” أسوة ببعض دور النشر الغربية التي تُعلي من شأن هذه الوظيفة وتعطيها حقها، دون التعدي على مساحة المبدع الخاصة ودون الخوف من أن يسرق المحرر الأدبي بساط الشهرة من الكاتب، بل هو شريكٌ في النجاح، ومقوّم للعمل، وأكثر الناس معرفة بدقائقه، وعن ماركيز وحبّه له، وكيف يعتبره كاتبه المفضل، ويعود إلى قراءة نتاجه مرّة بعد مرّة، وعن الطيب صالح _ وقد ذكره أكثر من مرّة في الكتاب_ وعن بابلوا نيرودا، وعن دان بروان، ولا ينسى في افتتاحية الكتاب أن يُشيد بعبقرية الكاتب والأديب شوقي بدري الذي يعتبره “شيخاً للحكاية الشعبية البسيطة”.

ويحكي عن نفسه كيف أنّه يقرأ 5 كتبٍ معاً، وأنّه ليس لديه طقوس خاصة للكتابة، بل يكتب أينما اتفق له، على الورق أو على جهاز الكمبيوتر، وليس لديه عداءٌ مع القراءة الإلكترونية وإن كان لا يفضلها كثيراً.

ويفتح صدره وبريده الإلكتروني وحساباته على مواقع التواصل الاجتماعي ( حسابه في تويتر ) يومياً للقرّاء ويسمع منهم، ويستفيد من ملاحظاتهم، ويُدرج قصصَ بعضهم في ثنايا كتبه دون أن يخبرهم، فالقصة حين تُحكى تصبح ملكاً للجميع؛ دون انتهاكٍ للخصوصية، ولا تعريضٍ بالشخوص طبعاً.

لا يخلو الكتاب من بعض المقالات العاديّة، لكنه في مجمله مثير للاهتمام ويستحق القراءة.

المقالات التي أعجبتني كثيراً :

  • نصوص لن تُكتب.
  • كاتب الومضات.
  • أن تستمر كاتباً.
  • المنتج الثقافي مقهور إعلامياً

وفي ثنايا الكتاب ستقع على عناوينَ كتبٍ جميلة، أحبّها أو مرّ عليها، أو لفتت نظره فكانت ضمن دائرة الكتب المفضّلة له.

====

https://platform.twitter.com/widgets.js

أمير تاج السرّ روائي وطبيب سوداني الأصل، ولد في عام 1960 بشمال السودان، وتنقل في البلاد العربية بين قطر والسعودية ومصر،وله أكثر من عشرين مؤلفاً غالبها روايات أشهرها:

( صائد اليرقات) ( إيبولا76 ) ( مهر الصياح ) ( سيرة الوجع ) ( نار الزغاريد ) ( اشتهاء ) ( زحف النمل) ( أرض السودان) ( ضغط الكتابة وسكرها ) ( تحت ظل الكتابة ) وغيرها..
وأول رواية كتبها اسمها كرمكول التي يقول إنه رهن ساعته ليتحمل تكاليف نشرها.

4 تعليقات

  1. مراجعة جميلة للكتاب ،وحمّستني لقراءة هذا الكتاب، رغم أنني لا أوافق الكاتب في رأيه عن القصة القصيرة واتهامها بالإساءة إلى الرواية الطويلة ،لكن لعل له وجه نظر ستظهر عندما أقرأها.

    أرشح لك كتاب اللغز وراء السطور للكاتب الراحل أحمد خالد توفيق.

اترك رد